الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
النجمي التركماني على مصر وهي سنة إحدى وخمسين وستمائة. فيها كانت الوقفة الجمعة. وفيها عظم بمصر أمر الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار ورشح للسلطنة وكان من حزبه من خشداشيته بيبرس البندقداري وبلبان الرشيدي وسنقر الرومي وسنقر الأشقر. وصار الملك المعز في خوف. وقد تقدم ذكر هذه الحكاية في ترجمة المعز. وفيها توفي الشيخ الإمام سعد الدين محمد بن المؤيد بن حمويه ابن عم شيخ الشيوخ صدر الدين. مات بخراسان وكان زاهدًا عابدًا دينًا متكلمًا في الحقيقة وله مجاهدات ورياضات وقدم الشام وحج وسكن بدمشق ثم عاد إلى الشرق بعد أن افتقر بالشام واجتمع بملك التتار فأحسن به الظن وأعطاه مالًا كثيرًا وأسلم على يده خلق كثير من التتار وبنى هناك خانقاه وتربة إلى جانبها وأقام يتعبد وكان له قبول عظيم هناك - رحمه الله تعالى -. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي أبو البقاء صالح بن شجاع بن محمد بن سيدهم المدلجي الخياط في المحرم. وسبط السلفي أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي الحرم مكي بن عبد الرحمن الطرابلسي الإسكندراني في شوال عن إحدى وثمانين سنة. وأبو محمد عبد القادر بن حسين البندنيجي البواب آخر من روى عن عبد الحق اليوسفي. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وثماني أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا. السنة الخامسة من ولاية الملك المعز أيبك الصالحي النجمي التركماني على مصر فيها وصلت الأخبار من مكة بأن نارًا ظهرت في أرض عدن في بعض جبالها بحيث يطير شررها إلى البحر في الليل ويصعد منها دخان عظيم في النهار فما شكوا أنها النار التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تظهر في آخر الزمان. فتاب الناس وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد وشرعوا في أفعال الخير والصدقات. قلت: وقد تقدم ذكر هذه النار بأوسع من هذا في ترجمة الملك المعز هذا. وفيها وصلت الأخبار من الغرب باستيلاء إنسان على إفريقية وادعى أنه خليفة وتلقب بالمستنصر وخطب له في تلك النواحي وأظهر العدل وبنى برجًا وأجلس الوزير والقاضي والمحتسب بين يديه يحكمون بين الناس وأحبته الرعية وتم أمره. وفيها توفي الإمام عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي. كان إمامًا فاضلًا في فنون وصحب الفخر الرازي خطيب الري وأقام عند الملك الناصر داود سنين كثيرة بدمشق والكرك وكان متواضعًا كبير القدر كثير الإحسان. مات بدمشق ودفن بقاسيون في تربة المعظم عيسى. وفيها توفي الشيخ الإمام العلامة مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني الحنبلي جد الشيخ تقي الدين ابن تيمية. ولد في حدود سنة تسعين وخمسمائة وتفقه في صغره على عمه الخطيب فخر الدين وسمع الكثير ورحل البلاد وبرع في الحديث والفقه وغيره ودرس وأفتى وانتفع به الطلبة ومات يوم الفطر بحران. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي السديد أبو محمد مكي بن المسلم بن علان القيسي في صفر وله تسع وثمانون سنة. والرشيد إسماعيل بن أحمد بن الحسين العراقي الحنبلي عن نيف وثمانين سنة في جمادى الأولى. والمفتي كمال الدين أبو سالم محمد بن طلحة النصيبي بحلب عن سبعين سنة. وأبو البقاء محمد بن علي بن بقاء بن السباك. والعلامة مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية بحران يوم الفطر عن اثنتين وستين سنة. وأبو الغيث فرج ابن عبد الله الحبشي فتى أبي جعفر القرطبي في شوال. والإمام شمس الدين عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي بدمشق. وأبو العزائم عيسى بن سلامة بن سالم الخياط بحران في أواخر السنة وله مائة وسنة. والفارس أقطاي مقدم البحرية قتله المعز بمصر. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا. السنة السادسة من ولاية الملك المعز أيبك الصالحي النجمي التركماني على مصر. فيها عزمت المماليك العزيزية على القبض على الملك المعز وكاتبوا الملك الناصر فلم يوافقهم أيدغدي العزيزي واستشعر الملك المعز منهم بذلك وعلم الخبر وعلموا هم أيضا فهربوا على حمية وكبيرهم آقوش البرنلي ولم يهرب أيدغدي وأقام بمخيمه فجاء الملك المعز راكبًا إلى قرب خيمته فخرج إليه أيدغدي فأمر المعز بحمله وقبض أيضا على الأمير الأتابكي ونهبت خيام العزيزية وكانوا بالعباسة. والأعيان الذين هربوا هم بلبان الرشيدي وعز الدين أزدمر وبيبرس البندقداري وسنقر الأشقر وسيف الدين قلاوون الألفي وبدر الدين بيسري وسنقر الرومي وبلبان المستنصري. وفيها عاد الملك الناصر داود من الأنبار إلى دمشق بعد أن حبسه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بقلعة حمص ثلاث سنين وبعث به إلى بغداد ثم عاد إلى دمشق وأقام بها ثم عاد في سنة ثلاث وخمسين إلى العراق وحج وأقام بالحلة وكان قد جرى بين الحج العراقي وأصحاب أمير مكة فتنة فأصلح بينهم. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي المفتي ضياء الدين صقر بن يحيى بن سالم الحلبي في صفر عن نيف وتسعين سنة. والمحدث شهاب الدين أبو العرب إسماعيل بن حامد الأنصاري القوصي في شهر ربيع الأول عن ثمانين سنة. والنور محمد بن أبي بكر بن خلف البلخي ثم الدمشقي في شهر ربيع الأخر وقد رأى السلفي. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعا سواء. السنة السابعة من ولاية الملك المعز أيبك الصالحي النجمي التركماني وهي سنة أربع وخمسين وستمائة. فيها فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف مدرسته التي أنشأها بدمشق بباب الفراديس. وفيها غرقت بغداد الغرق العظيم الذي لم يعهد مثله بحيث انتقل الخليفة ودخل الماء إلى دار الوزير وغرقت خزائن الخليفة وجرى شيء لم يجر مثله وكان ذلك في شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى. وفيها توفي الشيخ الزاهد العابد الورع المجاهد عماد الدين عبد الله بن أبي المجد الحسن بن الحسين بن علي الأنصاري ابن النحاس خدم في مبادئ أمره الملوك وولى الوزارة لبعضهم ثم انقطع في آخر عمره بقاسيون بزاويته فأقام بها ثلاثين سنة صائما قائما مشغولا بالله تعالى ويقضي حوائج الناس بنفسه وماله ودفن بقاسيون وكان له مشهد هائل. وفيها كان ظهور النار العظيمة بالمدينة الشريفة وهي غير التي ذكرناها في السنة الماضية وهذه النار التي تقدم ذكرها في ترجمة الملك المعز هذا. وفيها احترق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان وهذا غير النار التي ظهرت بنواحي المدينة فإن هذا الحريق له سبب ابتدأ من زاوية الحرم النبوي الغربية من الشمال فعلقت في آلات الحرم ثم دبت في السقوف فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع ووقع بعض أساطينه وكان ذلك قبل أن ينام الناس واحترق أيضا سقف الحجرة. وأصبح الناس في يوم الجمعة فعزلوا موضعا للصلاة. ونظم في حريق المسجد غير واحد من الشعراء فقال معين الدين بن تولو المغربي: الكامل قل للروافض بالمدينة ما لكم يقتادكم للذم كل سفيه ما أصبح الحرم الشريف محرقا إلا لسبكم الصحابة فيه وقال غيره: الكامل لم يحترق حرم النبي لحادث يخشى عليه ولا دهاه العار لكنها أيدي الروافض لامست ذاك الجناب فطهرته النار قال: وعد ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات. وقال أبو شامة: في ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل وكان شديد الحمرة ثم انجلى وكسفت الشمس في غده احمرت وقت طلوعها وقريب غروبها واتضح بذلك ما صوره الإمام الشافعي من اجتماع الخسوف والكسوف واستبعده أهل النجامة. وفيها تواترت الأخبار بوصول هولاكو إلى أذربيجان قاصدًا بلاد الشام فتصالح العسكر المصري والشامي على قتاله وتهيأ كل منهم للقاء التتار. وفيها توفي الأمير مجاهد الدين إبراهيم بن أدنبا الصوابي نائب دمشق وليها بعد حسام الدين بن أبي علي وكان في أول أمره أمير جاندار الملك الصالح نجم الدين أيوب وكان أميرًا كبيرًا عاقلًا فاضلًا شاعرًا. ومن شعره - رحمه الله تعالى -: مخلع البسيط أشبهك الغصن في خصال القد واللين والتثني لكن تجنيك ما حكاه الغصن يجنى وأنت تجني وفيها توفي الإمام العلامة عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد بن جعفر بن الحسن زكي الدين أبو محمد البغداي ثم المصري المعروف بابن أبي الإصبع. كان أحد الشعراء المجيدين وهو صاحب التصانيف المفيدة في الأدب وغيره. ومولده في سنة خمس وقيل سنة تسع وثمانين وخمسمائة بمصر وتوفي بها. ومن شعره في نوع التصدير وسماه الأوائل رد العجز اصبر على خلق من تصاحبه واصحب صبورا على أذى خلقك وذكر أيضا في نوع المدح في معرض الذم أبياتا يعارض بها القاضي السعيد ابن سناء الملك في قواد. فقال هو فيمن ادعى الفقه والكرم: السريع إن فلانا أكرم الناس لا يمنع ذا الحاجة من فلسه وهو فقيه ذو اجتهاد وقد نص على التقليد في درسه فيحسن البحث على وجهه ويوجب الدخل على نفسه وأما قول ابن سناء الملك في قواد: السريع لي صاحب أفديه من صاحب حلو التأتي حسن الاحتيال لو شاء من رقة ألفاظه ألف ما بين الهدى والضلال يكفيك منه أنه ربما قاد إلى المهجور طيف الخيال قلت: ويعجبني قول من قال في هذا المعنى - أعني في قواد -: الوافر إذا ما كان من تهواه غصنًا وأقسم لا يرق لمن يهيم فدونك والنسيم له رسول فإن الغصن يعطفه النسيم لو لم يكن مثل النسيم لطافة ما كان يعطف لي غصون البان وفيها توفي الشيخ الإمام الفقيه الواعظ المؤرخ العلامة شمس اللين أبو المظفر يوسف بن قزأغلي بن عبد الله البغدادي ثم الدمشقي الحنفي سبط الحافظ أبي الفرج بن الجوزي. كان والده حسام الدين قزأوغلي من مماليك الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة وكان عنده بمنزلة الولد رباه وأعتقه وأدبه. ومولد الشيخ شمس الدين هذا في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ببغداد وبها نشأ تحت كنف جده لأمه الحافظ أبي الفرج بن الجوزي إلى أن مات في سنة سبع وتسعين وخمسمائة واشتغل وبرع في عدة علوم ووعظ ببغداد وغيرها وقدم دمشق واستوطنها ونالته السعادة والوجاهة عند الملوك لا سيما الملك المعظم عيسى فإنه كان عنده بالمنزلة العظمى ورحل البلاد وسمع الحديث وجلس للوعظ في الأقطار وكان له لسان حلو في الوعظ والتذكار ولكلامه موقع في القلوب وعليه قابلية من الخاص والعام وله مصنفات مفيدة: تاريخه المسمى مرآة الزمان وهو من أجل الكتب في معناها. ونقلت منه في هذا الكتاب معظم حوادثه. وكانت وفاته في ذي الحجة. رحمه الله تعالى. وقد استوعبنا ترجمته في تاريخنا المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي بأوسع من هذا إذ هو كتاب تراجم وليس للإطناب في ذكره هنا محل كون أننا شرطنا في هذا الكتاب ألا نطنب إلا في تراجم ملوك مصر الذين تأليف هذا الكتاب بصددهم وما عداهم يكون على سبيل الاختصار في ضمن الحوادث المتعلقة بالمترجم من ملوك مصر. انتهى. وفيها توفي الأمير سيف الدين أبو الحسن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك القيمري واقف المارستان بجبل الصالحية كان أكبر الأمراء في آخر عمره وأعظمهم مكانة وجميع أمراء الأكراد القيمرية وغيرهم كانوا يتأدبون ويقفون في خدمته إلى أن مات في شعبان وهو أجل الأمراء مرتبة. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي العماد أبو بكر عبد الله بن أبي المجد الحسن بن الحسين الأنصاري ابن النحاس الأصم في المحرم وله اثنتان وثمانون سنة. والإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن وثيق الإشبيلي المقرئ بالإسكندرية وله سبع وثمانون سنة توفي في شهر ربيع الآخر. والقاضي أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد السلام بن المقدسية السفاقسي آخر من حضر على السلفي في جمادى الأولى. والمفتي شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي. والواعظ شمس الدين يوسف بن قزأوغلي سبط ابن الجوزي في ذي الحجة. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة سلطنة المنصور علي بن إيبك التركماني السلطان الملك المنصور نور الدين علي ابن السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني الصالحي النجمي ملك الديار المصرية بعد قتل أبيه المعز أيبك في يوم الخميس خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمائة وتم أمره وخطب له من الغد في يوم الجمعة سادس عشرينه على منابر مصر وأعمالها. والمنصور هذا هو الثاني من ملوك مصر من الترك بالديار المصرية. وتسلطن المنصور هذا وعمره خمس عشرة سنة وركب في يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر بشعار السلطنة من القلعة إلى قبة النصر في موكب هائل ثم عاد ودخل القاهرة من باب النصر وترجل الأمراء ومشوا بين يديه ما خلا الأتابك علم الدين سنجر الحلبي. ثم صعد المنصور إلى القلعة وجلس بدار السلطنة ومد السماط للأمراء فأكلوا ووزر له وزير أبيه شرف الدين الفائزي وانفض الموكب. وفي يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الآخر خطب للملك المنصور وبعده لأتابكه علم الدين سنجر الحلبي المذكور. وفوض القضاء بالقاهرة وأعمالها إلى القاضي بدر الدين السنجاري وعزل تاج وفي عاشر شهر ربيع الأخر قبض الأمير قطز وسنجر الغتمي وبهادر وغيرهم من الأمراء المعزية على الأتابك سنجر الحلبي وأنزلوه إلى الجب بالقلعة وكان القبض عليه لأمور: أحدها أنه كان طمع في السلطنة بعد قتل الملك المعز أيبك لما طلبته شجرة الدر وعرضت عليه الملك والثاني أنه بلغهم أنه ندم على ترك الملك وهو في عزم الوثوب. فعاجلوه وقبضوا عليه. ولما قبض عليه اضطربت خشداشيته من المماليك الصالحية النجمية وخاف كل أحد على نفسه فهرب أكثرهم إلى جهة الشام فخرج في إثرهم جماعة من الأمراء المعزية وغيرهم وتقنطر بالأمير عز الدين أيبك الحلبي الكبير فرسه وكذلك الأمير خاص ترك الصغير فهلكا خارج القاهرة وادخلا ميتين وكانوا ركبوا في جماعة من المماليك الصالحية في قصد الشام أيضا. واتبع العسكر المهزومين إلى الشام فقبض على أكثرهم وحملوا إلى القلعة واعتقلوا بها. وقبض أيضًا على الوزير شرف الدين الفائزي. وفوض أمر الوزارة إلى القاضي بدر الدين يوسف السنجاري مضافًا إلى القضاء وأخذ موجود الفائزي وكان له مال كثير. ثم قبض على بهاء الدين علي بن حنا وزير شجرة الدر وأخذ خطه بستين ألف دينار. ثم خلع الملك المنصور على الأمير أقطاي المستعرب باستقراره أتابكا عوضًا عن سنجر الحلبي. ثم في شهر رجب رفعت يد القاضي بحر الدين السنجاري من الوزارة وأضيف إليه قضاء ثم في شعبان كثرت الأراجيف بين الناس بأن الأمراء والأجناد اتفقوا على إزالة حكم مماليك الملك المعز من الدولة وأن الملك المنصور تغير على الأمير سيف الدين قطز المعزي واجتمع الأمراء في بيت الأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي مقدم الحلقة وتكلموا إلى أن صلح الأمر بين الملك المنصور وبين مملوك أبيه الأمير قطز. وخلع عليه وطيب قلبه ثم وقع الكلام أيضًا من المعزية وغيرهم. فلما كان رابع شهر رمضان ركب الأمير بغدي وبدر الدين بلغان وانضاف إليهما جماعة ووقفوا بآلة الحرب فخرج إليهم حاشية السلطان فقاتلوهم وهزموهم وقبضوا على بغدي بعد أن جرح وعلى بلغان وحملا إلى القلعة ودخلت المعزية إلى القاهرة فقبضوا على الأمير عز الدين أيبك الأسمر وأرزن الرومي وسابق الدين بوزنا الصيرفي وغيرهم من المماليك الأشرفية ونهبت دورهم فاضطربت القاهرة حتى نودي بالأمان لمن دخل في الطاعة وسكن الناس وركب السلطان الملك المنصور في خامس شهر رمضان وشق القاهرة وفي خدمته الأمير قطز وباقي مماليك أبيه ثم نزل أيضًا في عيد الفطر وصلى بالمصفى. وركب وعاد إلى القلعة ومد السماط. ثم ورد كتاب الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام وحلب على الملك المنصور بمفارقة البحرية والصالحية له - أعني الأمراء والمماليك الذين خرجوا من القاهرة بعد القبض على علم الدين سنجر الحلبي المقدم ذكره -. فلما وقف المصريون على الكتاب ظنوا أن ذلك خديعة من الملك الناصر فاحترزوا لأنفسهم. ثم جهز المنصور عسكرا من المماليك والأمراء ومقدمهم الدمياطي إلى الشام فتوجهوا ونزلوا بالعباسة فوردت الأخبار على السلطان الملك المنصور بأن عساكر الملك الناصر وصلت إلى نابلس لقتال البحرية الذين قدموا عليه من مصر ثم فارقوه وكان البحرية نازلين بغزة ثم وردت الأخبار بأن البحرية وكان مقدم البحرية بلبان الرشيدي وبيبرس البندقداري خرجوا من غزة وكبسوا عسكر الملك الناصر وقتلوا منهم جماعة كثيرة ليلا. ثم ورد الخبر ثانيا بأن عسكر الملك الناصر كسروا البحرية وأن البحرية انحازوا إلى ناحية زغر من الغور. ثم ورد الخبر أيضا بمجيء البحرية إلى جهة القاهرة طائعين للسلطنة فقدم منهم الأمير عز الدين أيبك الأفرم ومعه جماعة فتلقوا بالإكرام وأفرج عن أملاك الأفرم وأرزاقه ونزل بداره بمصر. ثم بلغ السلطان أن البحرية - أعني الذي بقي منهم - رحلوا من زغر طالبين بعض الجهات فاتضح من أمرهم أنهم خرجوا من دمشق على حمية وأنهم قصدوا القدس الشريف ومقطع القدس يوم ذاك سيف الدين كبك من جهة الملك الناصر يوسف صاحب الشام وحلب فطلبوا منه البحرية أن يكون معهم فامتنع فاعتقلوه وخطبوا بالقدس للملك المغيث بن العادل بن الكامل بن العادل بن أيوب. ثم جاؤوا إلى غزة وقبضوا على واليها - أعني نائبها - وأخذوا حواصل الملك الناصر من غزة. والقدس وغيرهما. ثم إنهم أطمعوا الملك المغيث صاحب الكرك في ملك مصر وقالوا له: هذا ملك أبيك وجدك وعمك ثم عزموا على قصد الديار المصرية فجاء الخبر إلى مصر بذلك فخرج إليهم العسكر المصري واجتمعوا بالصالحية وأقاموا بها فلما كان سحر ليلة السبت منتصف في القعدة وصلت البحرية بمن معهم من عسكر الملك المغيث ووقعت الحرب بين الفريقين واشتد القتال بينهم وجرح جماعة والمصريون مع ذلك يزدادون كثرة وطلعت الشمس فرأت البحرية كثرة المصريين فانهزموا وأسر منهم بلبان الرشيدي وبه جراحات وهو من كبار القوم وهرب بيبرس البندقداري وبدر الصوابي إلى الكرك وبعض البحرية دخل في العسكر المصري ودخل العسكر المصري القاهرة وزين البلد لهذا النصر وفرح الملك المنصور والأمير قطز بذلك. وأما البحرية فإنهم توجهوا إلى الملك المغيث صاحب الكرك وحسنوا له أن يركب ويجيء معهم لأخذ مصر فأصغى لهم وتجهز وخرج بعساكره من الكرك في أول سنة ست وخمسين وستمائة وسار حتى قدم غزة وأمر البحرية راجع إلى بيبرس البندقداري. فلما بلغ ذلك المصريين خرج الأمير سيف الدين قطز بعساكر مصر ونزل بالعباسة. فلما تكامل عسكره سار منه قاصدا الشاميين. وخرج الملك المغيث من غزة إلى الرمل فالتقى بالعسكر المصري وتقاتلا قتالًا شديدًا في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر فانكسر الملك المغيث بمن معه من البحرية وقبض على جماعة كثيرة من المماليك البحرية الصالحية وهم: الأمير عز الدين أيبك الرومي وعز الدين أيبك الحموي وركن الدين الصيرفي وابن أطلس خان الخوارزمي وجماعة كثيرة فاحضروا بين يدي الأمير سيف الدين قطز والأمير الغتمي والأمير بهادر المعزية فأمروا بضرب أعناقهم فضربت وحملت رؤوسهم إلى القاهرة وعلقت بباب زويلة ثم أنزلت من يومها لما أنكر قتلهم على المعزية بعض أمراء مصر واستشنع ذلك. وأما الملك المغيث فإنه هرب هو والطواشي بدر الصوابي وبيبرس البندقداري ومن معهم ووصلوا إلى الكرك في أسوأ حال بعد أن نهب ما كان معهم من الثقل والخيام والسلاح وغير ذلك وأقاموا بالكرك وبينما هم في ذلك أرسل الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام جيشا مقدمه الأمير مجير الدين إبراهيم بن أبي بكرم بن أبي زكري والأمير نور الدين علي بن الشجاع الأكتع في طلب البحرية وخرجت البحرية لما بلغهم ذلك إلى غزة والتقوا مع العسكر الشامي وتقاتلوا فانكسر العسكر الشامي وقبض على مجير الدين ونور الدين وحملوهما البحرية إلى الكرك وقوي أمر البحرية بهذه الكسرة واشتدوا. وأما الملك الناصر لما بلغه كسر عسكره تجهز وخرج بنفسه لقتال البحرية وضرب دهليزه قبلي دمشق. فلما بلغ البحرية ذلك توجهوا نحو دمشق وضربوا أطراف عساكر الملك الناصر وخف بيبرس البندقداري حتى إنه أتى في بعض الأيام وقطع أطناب خيمة الملك الناصر المضروبة وذلك قبل خروج الناصر من دمشق. وبينما الناس في ذلك ورد الخبر بأخذ التتار لبغداد وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله وإخراب بغداد. سقوط بغداد بأيدي المغول قلت: نذكر سبب أخذ هولاكو لبغداد ثم نعود إلى أمر المصريين والشاميين والبحرية. فأما أمر هولاكو فإنه هولاكو وقيل: هولاو بن تولي خان بن جنكزخان المغلي. ولي الملك بعد موت أبيه تولي قان واتسعت ممالكه وعظم أمره وكثرت جيوشه من المغل والتتار ولا زال أمره في زيادة حتى ملك مدينة ألموت وقتل متوليها شمس الشموس وأخذ بلاده ثم أخذ الروم وأبقى بها ركن الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو صورة بلا معنى والحكم والتصرف لغيره. وكان وزير الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين بن العلقمي ببغداد وكان رافضيًا خبيثًا حريصًا على زوال الدولة العباسية ونقل الخلافة إلى العلويين يدبر ذلك في الباطن ويظهر للخليفة المستعصم خلاف ذلك ولا زال يثير الفتن بين أهل السنة والرافضة حتى تجالدوا بالسيوف وقتل جماعة من الرافضة ونهبوا فاشتكى أهل باب البصرة إلى الأمير مجاهد الدين الدوادار وللأمير أبي بكر ابن الخليفة فتقدما إلى الجند بنهب الكرخ فركبوا من وقتهم وهجموا على الرافضة بالكرخ وقتلوا منهم جماعة وارتكبوا معهم العظائم فخنق الوزير ابن العلقمي ونوى الشر في الباطن وأمر أهل الكرخ الرافضة بالصبر والكف عن القتال وقال لهم: أنا أكفيكم فيهم. وكان الخليفة المستنصر بالله قد استكثر من الجند قبل موته حتى بلغ عدد عسكره مائة ألف. وكان الوزير ابن العلقمي مع ذلك يصانع التتار في الباطن ويكاتبهم ويهاديهم فلما استخلف المستعصم بعد موت أبيه المستنصر وكان المستعصم خليًا من الرأي والتدبير فأشار عليه ابن العلقمي المذكور بقطع أرزاق أكثر الجند وأنه بمصانعة التتار وإكرامهم يحصل بذلك المقصود ولا حاجة لكثرة الجند ففعل الخليفة ذلك! قلت: وكلمة الشيخ مطاعة! ثم إن الوزير بعد ذلك كاتب التتار وأطمعهم في البلاد سرًا وأرسل إليهم غلامه وأخاه وسهل عليهم فتح العراق وأخذ بغداد وطلب منهم أن يكون نائبهم بالبلاد فوعدوه بذلك وتأهبوا لقصد بغداد وكاتبوا لؤلؤا صاحب الموصل في تهيئة الإقامات والسلاح فكاتب لؤلؤ الخليفة سرًا وحذره ثم هيأ لهم الآلات والإقامات. وكان الوزير ابن العلقمي المذكور ليس لأحد معه كلام في تدبير أمر الخليفة فصار لا يوصل مكاتبات لؤلؤ ولا غيره للخليفة وعمى عنه الأخبار والنصائح فكان يقرؤها هو ويجيب عنها بما يختار فنتج أمر التتار بذلك غاية النتاج وأخذ أمر الخليفة والمسلمين في إدبار! وكان تاج الدين بن صلايا نائب الخليفة بإربل حذر الخليفة وحرك عزمه والخليفة لا يتحرك ولا يستيقظ فلما تحقق الخليفة حركة التتار نحوه سير إليهم شرف الدين بن محيي الدين بن الجوزي رسولًا يعدهم بأموال عظيمة ثم سير مائة رجل إلى الدربند يكونون فيه يطالعون الخليفة بالأخبار فمضوا فلم يطلع لهم خبر لأن الأكراد الذين كانوا هناك دلوا التتار عليهم فهجموا عليهم وقتلوهم أجمعين. ثم ركب هولاكو بن تولي خان بن جنكزخان في جيوشه من المغل والتتار وقصدوا العراق وكان على مقدمته الأمير بايجونوين وفي جيشه خلق من أهل الكرخ الرافضة ومن عسكر بركة خان ابن عم هولاكو ومدد من صاحب الموصل مع ولده الملك الصالح ركن الدين إسماعيل فوصلوا قرب بغداد واقتتلوا من جهة البر الغربي عن دجلة فخرج عسكر بغداد وعليهم ركن الدين الدوادار فالتقوا على نحو مرحلتين من بغداد فانكسر البغداديون وأخذتهم السيوف وغرق بعضهم في الماء وهرب الباقون. ثم ساق بايجونوين مقدمة هولاكو فنزل القرية مقابل دار الخلافة وبينه وبينها دجلة لا غير. وقصد هولاكو بغداد من البر الشرقي وضرب سورا وخندقا على عسكره وأحاط ببغداد فأشار الوزير ابن العلقمي على الخليفة المستعصم بالله بمصانعتهم. وقال له: أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح فخرج إليهم واجتمع بهولاكو وتوثق لنفسه ورد إلى الخليفة وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوج بنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك على منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته ولا يطلب إلا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية وينصرف هو عنك بجيوشه فتجيبه يا مولانا أمير المؤمنين لهذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن أن تفعل بعد ذلك ما تريد والرأي أن تخرج إليه فسمع له الخليفة وخرج إليه في جمع من الأعيان من أقاربه وحواشيه وغيرهم. فلما توجه إلى هولاكو لم يجتمع به هولاكو وأنزل في خيمة ثم ركب الوزير وعاد إلى بغداد بإذن هولاكو واستدعى الفقهاء والأعيان والأماثل ليحضروا عقد بنت هولاكو على ابن الخليفة فخرجوا من بغداد إلى هولاكو فأمر هولاكو بضرب أعناقهم ثم مد الجسر ودخل بايجونوين بمن معه إلى بغداد وبذلوا السيف فيها واستمر القتل والنهب والسبي في بغداد بضعة وثلاثين يوما فلم ينج منهم إلا من اختفى. ثم أمر هولاكو بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وكسرًا. وقال الذهبي - رحمه الله - في تاريخ الإسلام: والأصح أنهم بلغوا ثمانمائة ألف. ثم نودي بعد ذلك بالأمان فظهر من كان اختفى وهم قليل من كثير. وأما الوزير ابن العلقمي فلم يتم له ما أراد وما اعتقد أن التتار يبذلون السيف مطلقا في أهل السنة والرافضة معًا وراح مع الطائفتين أيضا أمم لا يحصون كثرة وذاق ابن العلقمي الهوان والذل من التتار ولم تطل أيامه بعد ذلك كما سيأتي ذكره. ثم ضرب هولاكو عنق مقدم جيشه بايجونوين لأنه بلغه عنه من الوزير ابن العلقمي أنه كاتب الخليفة المستعصم لما كان بالجانب الغربي. وأما الخليفة فيأتي ذكره في الحوادث على عادة هذا الكتاب في محله غير أننا نذكره هنا على سبيل الاستطراد. ولما تم أمر هولاكو طلب الخليفة وقتله خنقا. وقيل غم في بساط وقيل جعله هو وولده في عدلين وأمر برفسهما حتى ماتا. ثم قتل الأمير مجاهد الدين الدوادار والخادم إقبال الشرابي صاحب الرباط بحرم مكة والأستادار محيي الدين بن الجوزي وولداه وسائر الأمراء الأكابر والحجاب والأعيان. وانقضت الخلافة من بغداد وزالت أيامهم من تلك البلاد وخربت بغداد الخراب العظيم وأحرقت كتب العلم التي كانت بها من سائر العلوم والفنون التي ما كانت في الدنيا قيل: إنهم بنوا بها جسرًا من الطين والماء عوضًا عن الآجر وقيل غير ذلك. وكانت كسرة الخليفة يوم عاشوراء من سنة ست وخمسين وستمائة المذكورة ونزل هولاكو بظاهر بغداد في عاشر المحرم وبقي السيف يعمل فيها أربعة وثلاثين يومًا وآخر جمعة خطب الخطيب ببغداد كانت الخطبة: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار وحكم بالفناء على أهل هذه الدار إلى أن قال: اللهم أجرنا في مصيبتنا التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها وإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم عمل الشعراء والعلماء قصائد في مراثي بغداد وأهلها وعمل الشيخ تقي الدين إسماعيل ابن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله التنوخي قصيدته المشهورة وهي: البسيط لسائل الدمع عن بغداد أخبار فما وقوفك والأحباب قد ساروا يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا فما بذاك الحمى والدار ديار تاج الخلافة والربع الذي شرفت به المعالم قد عفاه إقفار أضحى لعطف البلى في ربعه أثر وللدموع على الآثار آثار يا نار قلبي من نار لحرب وغى شبت عليه ووافي الربع إعصار علا الصليب على أعلى منابرها وقام بالأمر من يحويه زنار ومنها: وكم بدور على البدرية انخسفت ولم يعد لبدور منه إبدار وكم ذخائر أضحت وهي شائعة من النهاب وقد حازته كفار وكم حدود أقيمت من سيوفهم على الرقاب وحطت فيه أوزار ومنها: وهم يساقون للموت الذي شهدوا النار يا رب من هذا ولا العار يا للرجال بأحداث تحدثنا بما غدا فيه إعذار وإنذار من بعد أسر بني العباس كلهم فلا أنار لوجه الصبح إسفار ما راق لي قط شيء بعد بينهم إلا أحاديث أرويها وآثار لم يبق للدين والدنيا وقد ذهبوا سوق لمجد وقد بانوا وقد باروا إن القيامة في بغداد قد وجدت وحدها حين للإقبال إدبار آل النبي وأهل العلم قد سبيوا فمن ترى بعدهم تحويه أمصار ما كنت آمل أن أبقى وقد ذهبوا لكن أبى دون ما أختار أقدار وهي أطول من ذلك. وجملة القصيدة ستة وستون بيتا. وقال غيره في فقد الخلافة من بغداد بيتًا مفردًا وأجاد: الكامل خلت المنابر والأسرة منهم فعليهم حتى الممات سلام انتهى ذكر بغداد هنا ولا بد من ذكر شيء منها أيضا في الحوادث. يوسف صاحب الشام بعساكر في أثر البحرية فاندفعوا البحرية أمامه إلى الكرك فسار الناصر حتى نزل بركة زيزاء ليحاصر الكرك وصحبته الملك المنصور صاحب حماة فأرسل الملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل صاحب الكرك رسله إلى الملك الناصر يطلب الصلح وكان مع رسله الدار القطبية ابنة الملك المفضل قطب الدين بن العادل وهي من عمات الناصر والمغيث يتضرعون إلى الناصر ويطلبون الصلح ورضاه على ابن المغيث فشرط عليه الناصر أن يقبض على من عنده من البحرية فأجاب إلى ذلك وقبض وجهزهم إلى الملك الناصر على الجمال وهو نازل ببركة زيزاء. فحملهم الملك الناصر إلى حلب واعتقلهم بقلعتها ما خلا الأمير بيبرس البندقداري فإنه لما أحس بما وقع عليه الصلح هرب من الكرك في جماعة من البحرية وأتى إلى الملك الناصر صلاح الدين المذكور داخلًا تحت طاعته فأكرمه الملك الناصر وأكرم رفقته إكرامًا زائدًا وعاد الناصر إلى دمشق وفي خدمته الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وغيره من البحرية. وأما المصريون فإنه لما بلغ الملك المنصور عليًا والأمير قطز المعزي ما وقع للبحرية فرحًا فرحًا زائدًا وزينت مصر أياما لذلك وصفا الوقت للأمير قطز. وبينما هو في ذلك ورد الخبر عليه بنزول هولاكو على مدينة آمد من ديار بكر وأنه في قصد البلاد الشامية وأن هولاكو بعث رسله إلى الملك السعيد نجم الدين إيلغاري صاحب ماردين يستدعيه إلى طاعته وحضرته فسير إليه الملك السعيد ولده الملك المظفر قرا أرسلان وقاضي القضاة مهذب الدين محمد بن مجلي والأمير سابق الدين بلبان وعلى أيديهم هدية وحملهم رسالة تتضمن الاعتذار عن الحضور بمرض منعه الحركة. ووافق وصولهم إلى هولاكو أخذه لقلعة اليمانية وإنزاله من بها من حريم صاحب ميافارقين وأولاده وأقاربه وهم: ولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف جفتاي وولده الملك السعيد عمر وابن أخيه الملك الأشرف أحمد وولده الملك المشهر ابن تاج الملوك علي ابن الملك العادل وكان ينعت بالملك الصالح نجم الدين أيوب فأدوا الرسالة فقال هولاكو: ليس مرضه بصحيح وإنما هو يتمارض مخافة الملك الناصر صاحب الشام فإن انتصرت عليه اعتذر لي بزيادة المرض وإن انتصر علي كانت له اليد البيضاء عنده ثم قال: ولو كان للملك الناصر قوة يدفعني لم يمكني من دخول هذه البلاد وقد بلغني أنه بعث حريمه إلى مصر ثم أمر برد القاضي وحده فرد القاضي وأخبر الملك السعيد بالجواب. وأما هولاكو فإنه لازال يأخذ بلدًا بعد أخرى إلى أن استولى على حلب والشام واضمحل أمر الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام بعد أمور ووقائع وقعت له وانفل عنه أصحابه. فلما وقع ذلك فارقه الأمير بيبرس البندقداري وقدم إلى مصر ومعه جماعة من البحرية طائعًا للملك المنصور هذا فأكرمه قطز وأكرم رفقته وصاروا الجميع من عساكر مصر على العادة أولًا. يأتي تفصيل ذلك في ترجمة الملك المظفر قطز. إن شاء الله تعالى. ولما استفحل أمر قطز بديار مصر وصار هو المشار إليه فيها لصغر السلطان الملك المنصور علي ولكثرة حواشي قطز المذكور ثم تحقق قطز مجيء التتار إلى البلاد الشامية وعلم أنه لا بد من خروجه من الديار المصرية بالعساكر للذب عن المسلمين فرأى أنه لا يقع له ذلك فإن الآراء مغلولة لصغر السلطان ولاختلاف الكلمة فجمع قطز كمال الدين بن العديم الحنفي وغيره من الأعيان والأمراء بالديار المصرية وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثل هذا الوقت الصعب ولا بد أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كل أحد وينتصب للجهاد في التتار فأجابه الجميع: ليس لها غيرك! وكان قطز قبل ذلك قد قبض على الملك المنصور علي هذا وعوقه بالدور السلطانية فخلع الملك المنصور في الحال من الملك وبويع الأمير قطز ولقب بالملك المظفر سيف الدين قطز واعتقل الملك المنصور ووالدته بالدور السلطانية من قلعة الجبل وحلف قطز الناس لنفسه وتم أمره وذلك في يوم السبت سابع عشر في القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة. وكانت مدة الملك المنصور في السلطنة بالديار المصرية سنتين وسبعة أشهر واثنين وعشرين يومًا وبقي معتقلًا سنين كثيرة إلى أن تولى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري فنفاه هو ووالدته وأخاه ناصر الدين قاقان إلى بلاد الأشكري في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة. قلت: والملك المظفر قطز هذا هو أول مملوك خلع ابن أستاذه من الملك وتسلطن عوضه ولم يقع ذلك قبله من أحد من الملوك. وتمت هذه السنة السيئة في حاصد إلى يوم القيامة. وبهذه الواقعة فسدت أحوال مصر.
|